رميتُ سهمًا

في ليلة توسَّط هلالٌ في سماء تلك المدينة الكبيرة، في ليلة باردةٍ ومظلمة.

حدث الأمرُ صدفةً..

لقاءنا في تلك الساعة المتأخرة من الليل، من دون أن يعرف كلانا الآخر..

وقعت عيناي بعينيك، الواسعتان، شديدة السوادِّ والحنيِّة.

لقائي بك لم يكُن صدفةً كما عهدته، كان من وراء أوامرِ قلبي.. حين التقت الأعين ببعضها، وأخذ ناظري في البحث عنك، في أرجاء المدينة التي لطالما كرهتها، وكرهتُ شتاءها القاسي. أحببتها في ليلةِ وضُحاها، بل وعشقتها حين بات اللقاء يتكرر.. يومًا بعد يوم.

غلبتني الجرأة، واتخذت أول خطوةٍ لأتقدم بها نحوك، لأبدأ في التعرف إليك، بدأ الأمر مرددًا لي، في حين عهدُت تقدُّم الطرف الآخر دومًا. كسرتُ تلك العهود وبدأت أنا. لأخوض تلك المواجهة التي قد أكون فيها رابحًا لقلبك، أو خاسرًا لقلبي، أسيرًا بين يديك. ورميتُ سهمًا، إما أن يُصيب، وإما أن يخيب.

شاء القدرُ أن يُصيب سهمي قلبك، لتبدأ الفراشات مراسم الرقص من حولي، وتمتلئ السماءُ نجومًا مضيئة، ويكتمل البدرُ.

تكرر اللقاء يومًا بعد يومٍ.. أراك حين أُدير عيني، في ذلك المقهى، الذي أصبح مُفضلًا لديّ بعد أن تكرر اللقاء فيه، أو في ردهة ذلك الفندق المُريبِ الذي بتُّ أفضّلهُ عن غيره.

ولا تغيبُ عن بالي تلك الليلة، في منتصف الليل، حين شعرتُ بأني وحيدة، خائفة، ولا أشعرُ بالأمان. حتى وقع ناظري نحوك، في مقعدٍ مقابلٍ لمقعدي.. تبدّل الخوف إلى أمانٍ.. أماني الذي عثرت عليه بين عينيك.. وآمنتُ بالصُدفِ حينها.

حلَّت تلك الليلة، التي حكمت على قلبي بأن يُفصح عما يشعر بهِ، عن حُبُّي لك. عن سهمي الذي خلته أصاب قلبك، ولم يُصب. بالرُغم من دقة رميي له، إلا أنه ارتدَّ من قِبل من احتلَّ قلبُك يومًا.. شعرتُ بالسهم مُرتدًا نحوي، نحو قلبي الذي نبض حُبًا لك، وطُعن به.

لم يخطر ببالي قط، لا سيما بعد مرور عدة أشهر معك، ليلًا أو نهارًا، صيفًا أو شتاءً، غارقةً بين دموعي أو غارقةً بين أفراحي، ألجئُ إليك دون تردُّدٍ، بين يديك اللتين ظلّتا متاحتان لي. سلّمتُ قلبي، نفسي، وكُلّي، بين يديك اللتين مسحت دمعي، ربتّت على كتفي، احتوتني حين تخلّى عني أعزُّ من لي. وأصبحت السبب وراء دمعي، ارتخت عن كتفي، تخلّت عني، وأفلتتني.. حين اتضَّح أن للقلب من سكنه.

فلا تلُمني حين رميتُ سهمي نحوك، واعتقدتُ أنك تكُنُّ ولو قليلًا من المشاعر نحوي. وإن كان رُبعُ ما أشعرُ به نحوك. فلم يكُن هناك غيركَ حين أصرخُ فيهدئني، وحين أبكي يمسحُ دمعي، وحين أضحك يُشاركني، ويسمعني، ويُنصتُ لي حين أُفصحُ عما بقلبي له، وأبدأ بالكلامِ، شيئًا فالآخر.. عن تلك الليلة التي تشاجرتُ فيها مع شقيقتي، أو عن حُزني لموت بطل المسلسل المُفضل لدي، أو عن فرحتي والدموع تملأ عيني يُصاحبهما خبر زفاف صديقتي، الأقربُ لي. وعما يجول في خاطري، وفي بالي، بالتفاصيل المُملة، دون أن أستغرق التفكير في الأمر طويلًا. أبدأ بالكلام حتى أغفى على كتفك، بقلبٍ مُطمئنٍ وبالٍ مُرتاحٍ، لا يحملُ من الهمومِ شيئًا بعد أن شاركك إياها.

لرُبما زارتني المشاعرُ في وقت خاطئ، أو طرقت باب قلبي لشخصٍ خاطئٍ، لا يحملُ لي ذرةً من المشاعرِ..

لرُبما تزورك بعد عدةِ أيام، أو شهور، أو حتى سنينٍ طويلة.

كُن على يقينٍ بأن باب قلبي سيظلُ مفتوحًا حين تطرقُ المشاعر باب قلبك، لتعبر منهُ، وسهمك بين يديك، لتُصوِّبهُ على قلبي، فيُصيبهُ، فتملكهُ.

إلى ذلك الغريب..

مرّ الوقتُ طويلًا على حروفي..

كما قد مرّ عصيبًا على مشاعري، بتّ أكبتها ولا أكتبُها،

لا أشارك قلمي وحبري أيًا من تلك التفاصيل الصغيرة كما مضى.. كما عهدوني.

ولا أخفى على نفسي بأني وجدتُ أماني واستقراري في غُربتي، في ذلك الغريب البعيد كل البُعد عن خيالي.

رغم اختلاف الزمان والمكان.. مُحلِّقين بين الغيومِ، فوق ملايين البلدان والقارات.. التقينا.

ويا لها من لُقيا حين التقت الأعين ببعضها.. رُغمًا عن أعيُنِهم.. ووجودهم. رغمًا عن الظلام، لم يكن هذا عائقًا ليمنعني عن البحث عن النور.. بين عينيك.

بدأت عيناي باللمعان، بدأ قلبي بالخفقان.. وبدأ الحُبُّ تلك الليلة.

قيل في ديسمبر تنتهي كل الأحلام، أخذت تلك القاعدة مسارًا خاطئًا، وبدأت كلُ أحلامي في ديسمبر..

كان الأمرُ أشبَه بالمُستحيل، أبعدُ من الخيال وأصعب من الحقيقة، عدا أن الأمر لم يدُم طويلًا كونهُ صعبًا،

ففي ليلة قمريةٍ بدرُها مكتملٌ اجتمعنا، وجدت عيناي مسكنها بين مُقلتيك، وجدتُ طمأنينتي بين كفّيك حين اشتبكت الأناملُ ببعضها. أحكمتُ القبض عليها بكُلِّ ما أوتيتُ من قوةٍ حتى لا تفلت مني.

تلك اللحظات التي قضيتها معك، بحلوها ومُرّها، تخلدت فيّ وأصبحت مني. تلك الليالي التي أُسند فيها رأسي على كتفك وأبدأ دون تردُّدٍ، أبدأ بقصِّ تفاصيل يومي المُمل، ما إن كانت قهوتي حلوةً أم مُرَّةً، ما إن كنت أرتدي معطفًا جديدًا، أو حذاءً جديدًا، أو سُترةً بيضاء تعمدتُ ارتدائها لتُطابق سترتك.. فتخرجُ تلك الطفلة التي بداخلي لتُخلّد تلك اللحظة، وكأنك تُصبح جُزءًا مني وأقربُ لي.. ولا أُخفي عليك بأن حُبي وتعلُقي بتلك القطعة يتضاعف.

ولا أُخفي عليك أيضًا حُبِّي للرحلات الليليةِ الطويلة التي لا وجهة لها، يقودنا الطريق ويأخذنا لدربٍ لا نهاية له، كم أتمنى في تلك اللحظة أن يكون حقًا طريقًا لا نهاية له لأقضي ما تبقَّى من الليل معك، تُصاحبنا النجوم برفقة القمر.. ويرافقنا عبدالله المانع بتلك الأغنية التي يُفضلها كلانا.. أصواتنا العالية ونحنُ نُغني، نُردد كلمات الأغنية بكُلِّ مُتعة، كفّك بكفّي، عيني بعينك.. وطريقٌ طويل.

شاء القدر أن يجمعني بمن لم يخطر في بالي يومًا، مُمتنةٌ لتلك الرحلة، لتلك الليلة التي كانت سببًا في أن تقع عيناك بعيني ولم ترُف عنّي لحظةً بعدها.

دائمًا ما كنتُ أرددُ ذلك على مسامعك، بأن اجتماعنا وتعارفنا، ما هو إلا من وراء القدر.. لأجتمع بمن هو مُقدَّرٌ لي بأن أقع في حُبِّه.

لم يكُن القدر صديقًا لي في الآونة الأخيرة.. فقد شاء بأن يُبعد عيناك عن عيني، بأن ترُفَّ عني وتُغمض بعيدًا عن خُطاي.

لم أعتد على أن ألتفت نحوك ولا تكونُ عيناك مُتجهةً نحوي، تُراقب أعين جميع الحاضرين، ما إن كانت مُتجهة نحوي أم لا، تطمئن بأن عيناك الوحيدتان اللاتي تتأملاني. و”يعزُّ عليّ، حين أديرُ عيني، أفتشُ في مكانكَ لا أراكَ”

لا أملكُ الجرأة الكافية لأشتم القدر وألعن فيه، فقد أتاني بك، وإن لم يدُم الأمر طويلًا.. فإني مُمتنةٌ له. ومُمتنةٌ لمعرفتك وحُبِّك.

يدُك التي أحكمتُ القبض عليها بكلِّ ما أوتيتُ من قوةٍ.. أفلتَّها مني.

ذلك الطريقُ الذي خلتهُ طويلًا.. لم يُصب خيالي. ويا ليته أصاب.

ذلك الغريبُ.. أحياني، أعادني لحروفي، وما لها أن تكون كالبقية، فإنها كُتبت لهُ، منهُ، وإليه.